فصل: من فوائد الجصاص في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.المسألة الثانية: القدر الذي يأكله المضطر:

قال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه: لا يأكل المضطر من الميتة إلا قدر ما يمسك رمقه، وقال عبد الله بن الحسن العنبري: يأكل منها ما يسد جوعه، وعن مالك: يأكل منها حتى يشبع ويتزود، فإن وجد غني عنها طرحها، والأقرب في دلالة الآية ما ذكرناه أولا لأن سبب الرخصة إذا كان الإلجاء فمتى ارتفع الإلجاء ارتفعت الرخصة، كما لو وجد الحلال لم يجز له تناول الميتة لارتفاع الإلجاء إلى أكلها لوجود الحلال، فكذلك إذا زال الاضطرار بأكل قدر منه فالزائد محرم، ولا اعتبار في ذلك بسد الجوعة على ما قاله العنبري، لأن الجوعة في الابتداء لا تبيح أكل الميتة إذا لم يخف ضررًا بتركه، فكذا ههنا، ويدل عليه أيضًا أنه لو كان معه من الطعام مقدار ما إذا أكله أمسك رمقه لم يجز له أن يتناول الميتة، فإذا أكل ذلك الطعام وزال خوف التلف لم يجز له أن يأكل الميتة، فكذا إذا أكل من الميتة ما زال معه خوف الضرر وجب أن يحرم عليه الأكل بعد ذلك.

.المسألة الثالثة: إذا وجد المضطر أكثر من نوع من المحرمات:

اختلفوا في المضطر إذا وجد كل ما يعد من المحرمات، فالأكثرون من العلماء خيروه بين الكل لأن الميتة والدم ولحم الخنزير سواء في التحريم والاضطرار، فوجب أن يكون مخيرًا في الكل وهذا هو الأليق بظاهر هذه الآية وهو أولى من قول من أوجب أن يتناول الميتة دون لحم الخنزير أعظم شأنًا في التحريم.

.المسألة الرابعة: المضطر إلى الشرب إن وجد خمرا:

اختلفوا في المضطر إلى الشرب إذا وجد خمرًا، أو من غص بلقمة فلم يجد ماء يسيغه ووجد الخمر، فمنهم من أباحه بالقياس على هذه الصورة، فإن الله تعالى إنما أباح هذه المحرمات إبقاء للنفس ودفعًا للهلاك عنها، فكذلك في هذه الصورة وهذا هو الأقرب إلى الظاهر، والقياس وهو قول سعيد بن جبير وأبي حنيفة، وقال الشافعي رضي الله عنه: لا يشرب لأنه يزيده عطشًا وجوعًا ويذهب عقله، وأجيب عنه بأن قوله: لا يزيده إلا عطشًا وجوعًا مكابرة، وقوله: يزيل العقل فكلامنا في القليل الذي لا يكون كذلك.

.المسألة الخامسة: التداوي بالميتة:

اختلفوا إذا كانت الميتة يحتاج إلى تناولها للعلاج إما بانفرادها أو بوقوعها في بعض الأدوية المركبة، فأباحه بعضهم للنص والمعنى، أما النص فهو أنه أباح للعرنيين شرب أبوال الإبل وألبانها للتداوي، وأما المعنى فمن وجوه الأول: أن الترياق الذي جعل فيه لحوم الأفاعي مستطاب فوجب أن يحل لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} [المائدة: 4] غاية ما في الباب أن هذا العموم مخصوص ولكن لا يقدح في كونه حجة الثاني: أن أبا حنيفة لما عفا عن قدر الدرهم من النجاسة لأجل الحاجة، والشافعي عفا عن دم البراغيث للحاجة فلم لا يحكمان بالعفو في هذه الصورة للحاجة الثالث: أنه تعالى أباح أكل الميتة لمصلحة النفس فكذا ههنا، ومن الناس من حرمه واحتج بقوله عليه السلام: «إن الله تعالى لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليهم» وأجاب الأولون بأن التمسك بهذا الخبر إنما يتم لو ثبت أنه يحرم عليه تناوله، والنزاع ليس إلا فيه.

.المسألة السادسة: التداوي بالخمر:

اختلفوا في التداوي بالخمر، واعلم أن الحاجة إلى ذلك التداوي إن انتهت إلى حد الضرورة فقد تقدم حكمه في المسألة الرابعة، فإن لم تنته إلى حد الضرورة فقد تقدم حكمه في المسألة الخامسة. اهـ.

.قال الخازن:

والمضطر على ثلاثة أقسام: إما بإكراه أو بجوع في مخمصة أو بفقر لا يجد شيئًا البتة فإن التحريم يرتفع مع وجود هذه الأقسام بحكم الاستثناء في قوله: فلا إثم عليه وتباح له الميتة فأما الإكراه فيبيح ذلك إلى زوال الإكراه وأما المخمصة فلا يخلو إن كانت دائمة فلا خلاف في جواز الشبع منها، وإن كانت نادرة فاختلف العلماء فيه وللشافعي قولان أحداهما أنه يأكل ما يسد به الرمق، وبه قال أبو حنيفة. والثاني يأكل قدر الشبع، وبه قال مالك. اهـ.

.لطيفة: في قوله تعالى: {وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ}:

قوله: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} قدَّم {به} في هذه السورة، وأَخّرها في المائدة، والأَنعام، والنحل؛ لأَن تقديم الباءِ الأَصلُ؛ فإِنها تجرى مَجْرى الأَلِف والتشيديِ في التَّعدِّى، وكان كحرف من الفعل، وكان الموضع الأَول أَوْلى بما هو الأَصل؛ ليُعلم ما يقتضيه اللفظُ، ثم قدم فيما سواها ما هو المُسْتنكر، وهو الذبح لغير الله، وتقديمُ ما هو الغرض أَولى. ولهذا جاز تقديم المفعول على الفاعل، والحال على ذى الحال، والظرف على العامل فيه؛ إِذا كان أَكثر في الغرض في الإِخبار.
قوله: {فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} بالفاءِ وفي السور الثلاث بغير فاء لأَنه لمّا قال في الموضع الأَوّل: {فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} صريحًا كان النفي في غيره تضمينًا؛ لأَنّ قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} يدلّ على أَنه لا إِثم عليه.
قوله: {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، وفي الأَنعام {فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} لأَن لفظ الرب تكرر في الأَنعام مرات ولأَن في الأَنعام. اهـ.

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم}، وجاء في ثلاثة مواضع {وما أهل لغير الله به} أولها في سورة المائدة: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به}، والثانى في سورة الانعام: {قل لا أجد في ما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به}، والثالث في سورة النحل: {فكلوا مما رزقناكم حلالا طيبا واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به}.
يتعلق بهذه الآى الأربع خمسة سؤالات: أحدها تقديم المجرور الذي هو {به} في سورة البقرة وتأخيره فيما سواها الثانى تخصيص آية البقرة بقوله تعالى: {فلا إثم عليه}، الثالث: تخصيص آية الانعام بقوله: {فإن ربك غفور رحيم}، الرابع: زيادة ما زيد في آية المائدة من المحرمات، الخامس: تخصيص آية المائدة بقوله تعالى: {فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم}.
والجواب عن الأول: أن العرب مهما اعتنت بشيء أو قصدت به قصد زيادة من تأكيد أو تشريف قدمته أو قدمت ضميره وليس من كلامهم إجراء هذه الاغراض مجرى غيرها فلكل مقام مقال ألا ترى قول قائلهم: إياك أعنى وقول مجاوبه: وعنك أعرض وأنشد سيبويه رحمه الله:
لتقربن قربا جلديا ما دام فيهن فصيل حيا فتقديم فيهن يحرز معنى لا يحرزه التأخير وقال تعالى: {ولم يكن له كفوا أحد} وبسط هذا في مظانه وقال تعالى: {فبذلك فليفرحوا} وقال تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين} وهو كثير في المضمرات والظروف والمجرورات ومن نحوه قوله تعالى: {وكانوا فيه من الزاهدين} وقوله تعالى: {إنى لعملكم من القالين} ولكون هذا في صلة الموصول تكلف بعض النحويين في تعلقه تقدير اسم فاعل يفسره ما بعد الموصول وإذا حقق رجع إلى الأول قال سيبويه رحمه الله: كأنهم يقدمون الذي هو أهم لهم وهم ببيانه أعنى.
وآية البقرة قد تقدم قبلها قوله تعالى: {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض} وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم}، فورد تعريفهم بذكر ما أبيح لهم وورد ما يقصد إيجابه وندبيته وإن كان إنما يراد بها هنا الاباحة مفتتحا بنداء المخاطبين ومعقبا فيه ما أعملوا بإباحته لهم بالأمر بالشكر الجليل تلك النعمة وعظيم التوسعة فيها من قوله تعالى: {مما في الأرض}.
وقوله: {من طيبات ما رزقناكم} فلتوسعة الإحسان والإنعام ما أمروا بالشكر. فلما تحصل بهذه المقاصد الجليلة ما ليس في شيء من تلك المواضع والآيات الأخر وخص ما ذكره بعد بما حرم عليهم بكلمة {إنما} المقتضية الحصر والرافعة لضعف المفهوم حسب ما تقرر من الأصول إذ ليس قوله: «إنما الولاء لمن أعتق» مثل قوله: «فيما سقت السماء العشر»، «وفي سائمة الغنم الزكاة» في قوة المفهوم المسمى بدليل الخطاب فلما تحصل في هذه الآية ما أشير اليه من تأكيد هذا المحرم ما ليس في الآى الأخر ناسبه تقديم المضمر المجرور في قوله: {وما أهل به لغير الله} ليكون الكلام بتقديم المجرور بقوة أن لو قيل: إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير والمهل به لغير الله وهذا مقصود الكلام ولم يكن تأخير المجرور ليحرز هذا الذي قدرناه ولا ليناسب ما تقدم فجرى الكلام كله من أول القصة إلى آخرها على أسلوبمن البلاغة ملحوظ في آخره وأوله. أما الآى الأخر فليس فيها ما ما في هذه فتأخر الضمير المجرور إلى محله الذي هو موضعه إذ لم يقصد هذا القصد ولم يكن ليلائمه التقديم ولهذا المجموع وما جرى في الآية من الإطناب الجليل أعقب هذا الكلام بقوله: {فلا إثم عليه} ليناسب ما ذكر ووقع الاكتفاء في غيرها بما فيها كل ذلك على ما يناسب وهذا هو الجواب عن السؤال الثانى.
والجواب عن السؤال الثالث: إن الله سبحانه وتعالى لما قدم في آية الأنعام وجرى من قدم ذكره وتعنيفهم بقوله: {أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم}. أتبعه بقوله: {قل لا أجد في ما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير} ثم قال: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك} وهذا التفات لأن الجارى على لا أجد فيما أوحى إلى أن لو قيل فإن ربى أو فإن الله فعدل الخطاب التفاتا فقيل: {فإن ربك} لأن الكلام إذا تنوع حرك الخواطر إلى تفهمه فقال تعالى: {فإن ربك} ومع قصد الالتفات لم يعدل فيه عند تخصيص الخطاب لأنه موضع تعنيف وزجر لمن تقدم فورد الالتفات باسم الربوبية مع الإضافة إلى ضمير خطابه صلى الله عليه وسلم ولم يقل: فإن الله وكان يكون فيه الالتفات لما قصد فيه من نحو الوارد في قوله: {ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم}، وما ورد من مثله ليكون ذلك معرفا بمكانته عليه السلام وتحكيما للإعراض عنهم وعدم التفاتهم وتناسب آخر الكلام وأوله.
والجواب عن السؤال الرابع والخامس: أن آية المائدة من آخر ما نزل فورد فيها استيفاء ما حكم سبحانه بتحريمه وإلحاقه بالميتة والدم ولحم الخنزير أعقب الكلام بقوله: {فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم} تتميا لبيان حال المضطر ومظنة الاضطرار زيادة على ما ورد في الآى الأخر ليرتفع ما عسى أن يكون باقيا فيها من إجمال أو إشكال ليجرى مع قوله: {اليوم أكملت لكم دينكم} الآية. اهـ.

.من فوائد الجصاص في الآية:

قال رحمه الله:

.بَابُ تَحْرِيمُ الْمَيْتَةِ:

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْمَيْتَةُ فِي الشَّرْعِ اسْمٌ لِلْحَيَوَانِ الْمَيِّتِ غَيْرِ الْمُذَكَّى، وَقَدْ يَكُونُ مَيْتَةً بِأَنْ يَمُوتَ حَتْفَ أَنْفِهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ لِآدَمِيٍّ فِيهِ، وَقَدْ يَكُونُ مَيْتَةً لِسَبَبِ فِعْلِ آدَمِيٍّ إذَا لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الذَّكَاةِ الْمُبِيحَةِ لَهُ.
وَسَنُبَيِّنُ شَرَائِطَ الذَّكَاةِ فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَالْمَيْتَةُ وَإِنْ كَانَتْ فِعْلًا لِلَّهِ تَعَالَى وَقَدْ عَلَّقَ التَّحْرِيمَ بِهَا مَعَ عِلْمِنَا بِأَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ وَالْحَظْرَ وَالْإِبَاحَةَ إنَّمَا يَتَنَاوَلَانِ أَفْعَالَنَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَا فِعْلَ غَيْرِنَا؛ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُنْهَى الْإِنْسَانُ عَنْ فِعْلِ غَيْرِهِ وَلَا أَنْ يُؤْمَرَ بِهِ، فَإِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ لَمَّا كَانَ مَعْقُولًا عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ جَازَ إطْلَاقُ لَفْظِ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَقِيقَةً، وَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى تَأْكِيدِ حُكْمِ التَّحْرِيمِ، فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ سَائِرَ وُجُوهِ الْمَنَافِعِ، وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِالْمَيْتَةِ عَلَى وَجْهٍ وَلَا يُطْعِمُهَا الْكِلَابَ وَالْجَوَارِحَ لِأَنَّ ذَلِكَ ضَرْبٌ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ الْمَيْتَةَ تَحْرِيمًا مُطْلَقًا مُعَلَّقًا بِعَيْنِهَا مُؤَكِّدًا بِهِ حُكْمَ الْحَظْرِ فَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِشَيْءٍ مِنْهَا إلَّا أَنْ يُخَصَّ شَيْءٌ مِنْهَا بِدَلِيلٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَخْصِيصُ مَيْتَةِ السَّمَكِ وَالْجَرَادِ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِالْإِبَاحَةِ، فَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالْجَرَادُ وَالسَّمَكُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالطِّحَالُ وَالْكَبِدُ».
وَرَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ جَيْشِ الْخَبَطِ أَنَّ الْبَحْرَ أَلْقَى إلَيْهِمْ حُوتًا فَأَكَلُوا مِنْهُ نِصْفَ شَهْرٍ، ثُمَّ لَمَّا رَجَعُوا أَخْبَرُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ تُطْعِمُونِي؟
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي إبَاحَةِ السَّمَكِ غَيْرِ الطَّافِي وَفِي الْجَرَادِ.
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ اسْتَدَلَّ عَلَى تَخْصِيصِ عُمُومِ آيَةِ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ} وَبِقَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَّقِي، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ الْمُغِيرَةَ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْبَحْرِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ».
وَسَعِيدُ بْنُ سَلَمَةَ مَجْهُولٌ غَيْرُ مَعْرُوفٍ بِالثَّبْتِ، وَقَدْ خَالَفَهُ فِي سَنَدِهِ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، فَرَوَاهُ عَنْ الْمُغِيرَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِثْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي السَّنَدِ يُوجِبُ اضْطِرَابَ الْحَدِيثِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ تَخْصِيصُ آيَةٍ مُحْكَمَةٍ بِهِ وَقَدْ رَوَى ابْنُ زِيَادٍ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبُكَائِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الْأَعْمَشُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَصْحَابُنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَحْرِ: «ذَكِيٌّ صَيْدُهُ طَهُورٌ مَاؤُهُ» وَهَذَا أَضْعَفُ عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ مِنْ الْأَوَّلِ.
وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ حَدِيثٌ آخَرُ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَعَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ بَكْرِ بْنِ سِوَادَةَ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ الْعَلَوِيِّ، عَنْ، مُسْلِمِ بْنِ مَخْشِيٍّ الْمُدْلَجِي، عَنْ الْفَرَّاسِي، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْبَحْرِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» وَهَذَا أَيْضًا لَا يُحْتَجُّ بِهِ لِجَهَالَةِ رُوَاتِهِ، وَلَا يُخَصُّ بِهِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنُ حَنْبَلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْبَحْرِ فَقَالَ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي السَّمَكِ الطَّافِي وَهُوَ الَّذِي يَمُوتُ فِي الْمَاءِ حَتْفَ أَنْفِهِ فَكَرِهَهُ أَصْحَابُنَا وَالْحَسَنُ بْنُ حَيِّ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا بَأْسَ بِهِ وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهِ أَيْضًا، فَرَوَى عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ مَيْسَرَةَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «مَا طَفَا مِنْ مَيْتَةِ الْبَحْرِ فَلَا تَأْكُلْهُ».
وَرَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمَا كَرِهَا الطَّافِيَ.
فَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ مِنْ الصَّحَابَةِ قَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ كَرَاهَتُهُ.
وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَعَطَاءٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَإِبْرَاهِيمَ كَرَاهِيَتُهُ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَأَبِي أَيُّوبَ إبَاحَةُ أَكْلِ الطَّافِي مِنْ السَّمَكِ وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى حَظْرِ أَكْلِهِ ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَخْصِيصِ غَيْرِ الطَّافِي مِنْ الْجُمْلَةِ فَخَصَّصْنَاهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي الطَّافِي فَوَجَبَ اسْتِعْمَالُ حُكْمِ الْعُمُومِ فِيهِ.
وَقَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ الطَّائِفِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَلْقَى الْبَحْرُ أَوْ جَزَرَ عَنْهُ فَكُلُوهُ، وَمَا مَاتَ فِيهِ وَطَفَا فَلَا تَأْكُلُوهُ».
وَرَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، وَنُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُجْمِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا جَزَرَ عَنْهُ الْبَحْرُ فَلَا تَأْكُلْ وَمَا أَلْقَى فَكُلْ، وَمَا وَجَدْته مَيِّتًا طَافِيًا فَلَا تَأْكُلْهُ».
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِثْلَهُ.
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ زَكَرِيَّا قَالَ: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا حَفْصٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إذَا وَجَدْتُمُوهُ حَيًّا فَكُلُوهُ، وَمَا أَلْقَى الْبَحْرُ حَيًّا فَمَاتَ فَكُلُوهُ، وَمَا وَجَدْتُمُوهُ مَيِّتًا طَافِيًا فَلَا تَأْكُلُوهُ» وَحَدَّثَنَا ابْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى بْنُ أَبِي عُثْمَانَ الدِّهْقَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ يَزِيدَ الطَّحَّانُ: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا صِدْتُمُوهُ وَهُوَ حَيٌّ فَمَاتَ فَكُلُوهُ، وَمَا أَلْقَى الْبَحْرُ مَيِّتًا طَافِيًا فَلَا تَأْكُلُوهُ».
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَيُّوبُ وَحَمَّادٌ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ مَوْقُوفًا عَلَى جَابِرٍ قِيلَ لَهُ: هَذَا لَا يُفْسِدُهُ عِنْدَنَا، لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَرْوِيَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَارَةً ثُمَّ يُرْسِلَ عَنْهُ فَيُفْتِيَ بِهِ، وَفُتْيَاهُ بِمَا رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ مُفْسِدٍ لَهُ بَلْ يُؤَكِّدُهُ.
عَلَى أَنَّ إسْمَاعِيلَ بْنَ أُمَيَّةَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ لَيْسَ بِدُونِ مَنْ ذَكَرْت، وَكَذَلِكَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، فَزِيَادَتُهُمَا فِي الرَّفْعِ مَقْبُولَةٌ عَلَى هَؤُلَاءِ.
فَإِنْ قِيلِ: قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ السَّمَكُ وَالْجَرَادُ» وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي جَمِيعِهِ قِيلَ لَهُ: يَخُصُّ مَا ذَكَرْنَا وَرَوَيْنَا فِي النَّهْيِ عَنْ الطَّافِي، وَيَلْزَمُ مُخَالِفَنَا عَلَى أَصْلِهِ فِي تَرْتِيبِ الْأَخْبَارِ أَنْ يَبْنِيَ الْعَامَّ عَلَى الْخَاصِّ فَيَسْتَعْمِلُهُمَا وَأَنْ لَا يُسْقِطَ الْخَاصَّ بِالْعَامِّ، وَعَلَى أَنَّ هَذَا خَبَرٌ فِي رَفْعِهِ اخْتِلَافٌ، فَرَوَاهُ مَرْحُومٌ الْعَطَّارُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، وَرَوَاهُ يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ مَرْفُوعًا، فَيَلْزَمُك فِيهِ مِثْلُ مَا رُمْت إلْزَامَنَا إيَّاهُ فِي خَبَرِ الطَّافِي فَإِنْ احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» وَلَمْ يُخَصِّصْ الطَّافِيَ مِنْ غَيْرِهِ.
قِيلَ لَهُ: نَسْتَعْمِلُهُمَا جَمِيعًا وَنَجْعَلُهُمَا كَأَنَّهُمَا وَرَدَا مَعًا، نَسْتَعْمِلُ خَبَرَ الطَّافِي فِي النَّهْيِ وَنَسْتَعْمِلُ خَبَرَ الْإِبَاحَةِ فِيمَا عَدَا الطَّافِي.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْخَاصِّ وَالْعَامِّ أَنَّهُ مَتَى اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِعْمَالِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ وَاخْتَلَفُوا فِي اسْتِعْمَالِ الْآخَرَ كَانَ مَا اُتُّفِقَ فِي اسْتِعْمَالِهِ قَاضِيًا عَلَى مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «هُوَ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» و«أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ» مُتَّفَقٌ عَلَى اسْتِعْمَالِهِمَا وَخَبَرُ الطَّافِي مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْضَى عَلَيْهِ بِالْخَبَرَيْنِ الْآخَرَيْنِ قِيلَ لَهُ: إنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ مِنْ مَذْهَبِهِ وَقَوْلِهِ فِيمَا لَمْ يُعَضِّدْهُ نَصُّ الْكِتَابِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ عُمُومُ الْكِتَابِ مُعَاضِدًا لِلْخَبَرِ الْمُخْتَلَفِ فِي اسْتِعْمَالِهِ فَإِنَّا لَا نَعْرِفُ قَوْلَهُ فِيهِ.
وَجَائِزٌ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ وُقُوعُ الْخِلَافِ فِي اسْتِعْمَالِهِ بَعْدَ أَنْ يُعَضِّدَهُ عُمُومُ الْكِتَابِ، فَيُسْتَعْمَلَ حِينَئِذٍ مَعَ الْعَامِّ الْمُتَّفَقِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ، وَيَكُونَ ذَلِكَ مَخْصُوصًا مِنْهُ.
فَإِنْ احْتَجُّوا بِحَدِيثِ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ جَيْشِ الْخَبَطِ وَإِبَاحَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَكْلَ الْحُوتِ الَّذِي أَلْقَاهُ الْبَحْرُ، فَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدَنَا بِطَافٍ وَإِنَّمَا الطَّافِي مَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ فِي الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ حَادِثٍ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ كَرَاهَةَ الطَّافِي مِنْ أَجْلِ بَقَائِهِ فِي الْمَاءِ حَتَّى طَفَا عَلَيْهِ فَيُلْزِمُونَنَا عَلَيْهِ الْحَيَوَانَ الْمُذَكَّى إذَا أُلْقِيَ فِي الْمَاءِ حَتَّى طَفَا عَلَيْهِ.
وَهَذَا جَهْلٌ مِنْهُمْ بِمَعْنَى الْمَقَالَةِ وَمَوْضِعِ الْخِلَافِ لِأَنَّ السَّمَكَ لَوْ مَاتَ ثُمَّ طَفَا عَلَى الْمَاءِ لَأُكِلَ، وَلَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ وَلَمْ يَطْفُ عَلَى الْمَاءِ لَمْ يُؤْكَلْ، وَالْمَعْنَى فِيهِ عِنْدَنَا هُوَ مَوْتُهُ فِي الْمَاءِ حَتْفَ أَنْفِهِ لَا غَيْرُ.
وَقَدْ رَوَى لَنَا عَبْدُ الْبَاقِي حَدِيثًا وَقَالَ لَنَا إنَّهُ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، فَذَكَرَ أَنَّهُ حَدَّثَهُ بِهِ عُبَيْدُ بْنُ شَرِيكٍ الْبَزَّازُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْجُمَاهِرِ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ أَبَانَ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلْ مَا طَفَا عَلَى الْبَحْرِ» وَأَبَانَ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ لَيْسَ هُوَ مِمَّنْ يَثْبُتُ ذَلِكَ بِرِوَايَتِهِ، قَالَ شُعْبَةُ: لَأَنْ أَزْنِيَ سَبْعِينَ زَنْيَةً أَحَبَّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَرْوِيَ عَنْ أَبَانَ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} وَأَنَّهُ عُمُومٌ فِي الطَّافِي وَغَيْرِهِ، قِيلَ لَهُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَالْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ الطَّافِي.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَطَعَامُهُ} أَنَّهُ مَا أَلْقَاهُ الْبَحْرُ فَمَاتَ، وصَيْدُهُ مَا اصْطَادُوا وَهُوَ حَيٌّ، وَالطَّافِي خَارِجٌ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا أَلْقَاهُ الْبَحْرُ وَلَا مِمَّا صِيدَ؛ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ: اصْطَادَ سَمَكًا مَيِّتًا، كَمَا لَا يُقَالَ: اصْطَادَ مَيِّتًا.
فَالْآيَةُ لَمْ تَنْتَظِمْ الطَّافِيَ وَلَمْ تَتَنَاوَلْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمْ.